وصلتنى رسائل كثيرة مستنكرة ما كتبته بالأمس عن الدعوة لعدم وصم مريض الإيدز، وكلها للأسف تنطلق من نظرية يستاهل اللى جرى له!، وهى نظرية لا تنفع فى الطب ولا فى الإنسانية أيضاً، وما أزعجنى هو كم القسوة والتشفى والغلظة التى باتت تحكم أحاسيسنا ومشاعرنا حتى تجاه المرض، لذلك أنشر لكم ما كتبته كمقدمة للكتاب الذى يحكى عن قصص مرضى الإيدز، لعله يكون مرافعة دفاع متواضعة عن هؤلاء.

عندما انتقل الطب من معبد الكاهن إلى معمل الطبيب، وتحول من طقوس سحر إلى تجربة علم، صار لزاماً على الطبيب أن يتخلص من أمراض الانحياز ونظريات العقوبة ونظرات الشماتة، تخلص الطب من كلمة «يستاهل»، لم يعد المريض يستاهل اللى جرى له، عقاباً على ما اقترفه من ذنوب، بل أصبح المريض يستاهل العلاج والعناية والرعاية والتعاطف، وانتقلت الحرب من ضد المريض إلى ضد المرض.

الإيدز فى العالم كله تخلص من نظرة التربص والتوجس، وتخلص معها من نظرية «يستاهل»، إلا فى مصر والعالم العربى، مازال المريض مطارداً معزولاً منبوذاً، يتعامل معه المجتمع كمجرم، والأخطر أن الطبيب فى أحيان كثيرة يتعامل معه بكراهية وجفاء، بل وأحياناً برغبة شديدة فى الانتقام والتشفى!

وهذا أخطر عنصر فى قضية علاج الإيدز والتعايش معه فى بلدنا، فالمفروض أن الطبيب عندما يتعامل مع الفيروس تحت الميكروسكوب فهو يتعامل معه بحياد، يجب ألا يفك جديلة الـ«دى. إن إى» ويحولها إلى «كرباج» منقوع فى الزيت لجلد مريض الإيدز أو المتعايش معه، المفروض أن يبحث الطبيب عن علاج طبى ونفسى واجتماعى له، لا أن يبحث عن كمين شرطة للقبض عليه، أو ينادى على السياف مسرور من بين سطور ألف ليلة وليلة ليدق عنقه، لا نريد من الطبيب أن يتعامل معه، لا على أنه ضحية ولا على أنه مجرم، ولكن على أنه إنسان.

المجتمع الذى يريد من كل أفراده أن يصبوا فى قوالب، وأن يصبحوا على نفس الباترون، ويمشوا بنفس الكتالوج، مجتمع يطلب المستحيل ويطمح إلى الانتحار، فمجتمع الروبوتات لا يوجد إلا داخل جماجمنا، لابد لنا أن نحترم التنوع والاختلاف ونتسامح مع الخطأ، والمتعايش مع الإيدز إذا لم نتسامح معه ونقبله وندمجه سيتحول إلى شخص عدوانى، يدخل شرنقة إحباطه، وينحصر فى جيتو اكتئابه، ويتحول من كيان إنسان إلى أصبع ديناميت.

القصص التى يضمها الكتاب تثير الحزن أحياناً، والغضب أحياناً أخرى، الحزن على المتعايشين، والغضب ممن ظلمهم وعذبهم ولم يحترم معاناتهم، ولكنها دائماً تثير التساؤل، من أين اكتسب هؤلاء تلك القسوة؟، كيف تحولت ضمائرهم إلى فولاذ، وقلوبهم إلى حجر، وعقولهم إلى رصاص؟، ولكن يظل الأمل دائماً فى يد حانية تمتد من خلال جمعية أهلية أو مشاركة مجتمعية أو هيئة رعاية وتأهيل، يظل الأمل فى مزيد من الفهم، ومزيد من التواصل، نحن مجتمع يعانى أنيميا شديدة ومزمنة فى التواصل، علينا أن نعالجها بفيتامينات الحب والفهم والمعرفة والتكاتف.

يا سادة الرعب ليس من الإيدز ونقص المناعة المكتسبة، ولكن الرعب الحقيقى من الأسوار الحجرية التى نبنيها داخل ضمائرنا، والقلاع الأسمنتية التى نشيدها فى عقولنا، والصمت والتجاهل والخرس الذى يتحول رويداً رويداً إلى قنبلة تدمر وسكين يذبح الجميع وليس مريض الإيدز فقط، الرعب فى نقص المناعة الثقافية والاجتماعية التى تحول وطناً يقطنه 85 مليوناً، إلى 85 مليون جزيرة دون وطن.

أرجوكم حاربوا المرض ولا تحاربوا المريض.